المرأة المسلمة بين زمنين | موقع بصائر GuidePedia


كتب أحد الجنود الفرنسيين الذين شاركوا في احتلال تونس، في مذكراته قائلاً: "لما كنا نقوم بعمليات التمشيط ومداهمة القرى والجبال بحثاً عن المتمردين، كان في كل مرة يحز في قلبي ويشعرني بالخجل من نفسي ردة فعل النساء، حيث كنّ يهرولن عند رؤيتنا، ويهربن بسرعة البرق نحو زرائب الماشية وإسطبلات الخيول، ويقمن فوراً بتلطيخ أجسادهن بالروث وفضلات الحيوانات لكي نشمئز منهن عند محاولة اغتصابهن، ولا نقربهن بسبب الرائحة الكريهة التي تنبعث منهن بفعل الروث.. حقا، صورة لن تغادر ذهني ما حييت، وتجعلني أكن احتراماً لهؤلاء اللاتي قمن بالسباحة في الروث لأجل شرفهن".
هذا الخيار المر الذي لجأت إليه أولئك النسوة، تفادياً للوقوع فريسة لما هو أمَرّ وأشد على نفس كل حُرّة، لم يكن "ذكاء" انفردت به التونسيات، فمثل ذاك الفعل أو قريب منه تناقل خبرَه كثيرون ممن عايشوا فترة الغزو الإمبريالي الصليبي لبلاد المسلمين مع بدايات القرن التاسع عشر، فالعِرض حينها كان لا يزال أمراً تُبذل للذود عنه المُهج، وتراق لحفظه الدماء، ولم تكن إحاطته بتلك الهالة من التعظيم حِكراً على أهل المفاخر والأمجاد من الصحابة والتابعين، بل ظل الأمر كذلك إلى أواسط القرن الماضي، بمعنى أن العهد بهذا الصنف من النسوة اللاتي صدم سلوكُهن المجندَ الفرنسي، ليس ببعيد ولا فريد.
فما الذي تغير اليوم حتى تحولت جُلّ نساء الأمة من ذلك الحرص على الشرف حد الغوص في قاذورات البهائم، إلى الفجور والابتذال حد الارتماء في أحضان كل داعر؟!
ما الذي قتل الغيرة في قلوب أغلب الرجال حتى أمسينا نرى الواحد منهم يصطحب حليلته ليعرضها في الأسواق والحدائق العامة وهي في كامل زينتها، قد كشفت عن ساقيها وذراعيها، متعطرة، متنمصة، ومتفلجة للحسن، قد علت وجهَها أصباغ بعدد ألوان الطيف؟؟!!
إنها القيم، إنها الهوية الإسلامية التي تعرضت لحملات مسخ ممنهج على مدى عقود، حملات فكرية ثقافية قادها المحتل إبّان مقامه بين أظهرنا، وقبل أن يخرج صاغراً تحت ضربات المقاومة سلّم رايتها لبيادقه من بني جلدتنا؛ فحين تغيرت الثقافة التي تصوغ فكر المسلمين، وتحولت الحاضنة التربوية من البيت والمسجد إلى التلفاز والمدرسة بطِرازها الغربي، تغير تبعاً لذلك -ولابد- نمط حياتهم بشكل تدريجي، ابتداء بالأخلاق والسلوكات، وانتهاء باللباس الذي يُعد الواجهة المعبرة عن هوية صاحبه.
ويا ليت كل مسلمة تدرك أن أعداء الإسلام يتربصون بها لجعلها خنجراً يسددون به طعنات نجلاء إلى الفضيلة، ليهدموا الأخلاق والمبادئ التي بها قيام كل حضارة؛ فالمرأة من أشد الوسائل التي يوظفها أعداء الأمة لتخريب عقول المسلمين، والإزراء بكرامتهم.
ويبرز الإعلامُ بكافة أصنافه، لاسيما المرئي، كأخطر ميدان تُستغل فيه المرأة لإشاعة الانحلال في المجتمع، فبعد أن كان الرجل المسلم لا يكاد يرى امرأة أجنبية متزينة إلا يوم زفافه، صار اليومَ يراها صباح مساء على شاشة فضائيات بلده المسلم قبل فضائيات بلاد الغرب.
فقد أضحت المرأة في معظم وسائل الإعلام مجرد أنثى لتحريك الغرائز، وتهييج كوامن الشهوة، واستغلها منظرو الحداثة في نسختها الغربية كوسيلة مبتذلة لترويج أي سلعة مهما كانت حقيرة، فهي تارة تقف شبه عارية في إعلان دعائي للسيارات، وفي آخر تتغنج مستجدية عطف المشاهد ليشتري علكة بنصف درهم.
ثم لم تلبث تلك الصورة المهينة للمرأة في الإعلام أن خرجت إلى أرض الواقع، لتتحول شوارع المسلمين وميادينهم إلى ما يشبه الماخور الكبير الذي تعرض فيه إماء الحرية الزائفة أجسادهن الكاسية العارية، "ومن لم يشترِ فلا يُعدَم المشاهدة" عياذًا بالله.
إن هذا الانحراف الأخلاقي الخطير في المجتمعات المسلمة قد نجم عنه انتكاس قلوب كثير من المسلمين، وهو ما أدى بدوره إلى تغير المفاهيم عند ضحايا الجهل بالدين، واختلال معايير تمييز الحق من الباطل في أذهانهم؛ ففي السابق، كان المسلمون يستنكرون بشدة خروج امرأة سافرة واختلاطها بالرجال في الأسواق، واليوم يستهجن أغلب المنتسبين للإسلام مرور منتقبة في الشارع، فيرمقونها بعين الريبة والتعجب، ويعتبرونها غريبة "خرجت" على أعراف المجتمع وخصوصيات هويته.
في السابق، كان الزواج المكسبَ الأهم، والمبتغى الأول لكلا الطرفين، واليوم في ظل طغيان الماديات فإن كثيرات يعكفن لسنوات طويلة على الدراسة والبحث عن عمل عوض القبول بالزواج في سن مبكرة، في محاولة منهن لـ"تحقيق الذات" بنيل منصب رفيع "يضمن" مكانة اجتماعية، معتبرات أنهن بذلك سَيَكنّ قادرات على الاستقلال عن التبعية -المادية على الأقل- لغيرهن، بمن في هذا الغير زوج المستقبل.
فهكذا أقنعهن شياطين الإعلام، بائعو الأوهام؛ لكن الذي يحصل في غفلة منهن، هو أن بساط الزمن ينسحب من تحت أقدامهن دون أن يشعرن إلا بعد الفوات، وعندها، يستيقظن على وقع صدمة العنوسة، فيصير المنصب الرفيع عبئاً، وتغدو المكانة الاجتماعية ضنكاً، بعد أن كانت صاحبات النظرة القاصرة يعتبرن كل ذلك تميزاً وقيمة مضافة، ويتبخر "تحقيق الذات" بل يستحيل تعذيباً لتلك الذات الشقية، التي جر عليها الشقاءَ فهمٌ سقيم، وتحليل سطحي عقيم؛ ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في السابق، كانت الفتاة مطلوبة مرغوبة، ليس لكون العَرض حينها أقل من الطلب، ولكن لأنها كانت متمنِّعة مستترة؛ واليوم غدت -إلا من رحم الله- رخيصة تعرض نفسها حتى سامها كل خسيس، وتلك عاقبة من داست كرامتها بترك الهدي الرباني النفيس، واتبعت هواها باقتفاء خطوات أسيرات إبليس.
هكذا ضاعت مفاهيم عظيمة وأسس تربوية متينة، فأنتج ضياعها، بل الأصح تضييعها، صوراً قاسية من المعاناة، وذلك جزاء من أعرض عن خير الهدي، هدي المعصوم عليه الصلاة والسلام.
رحم الله أولئك الحرائر، اللائي رفضن المس بشرفهن، ولو بالسباحة في روث الأنعام، وهدى الله سبايا الحداثة، اللواتي قتلن الشرف على مذبح حرية أوحاها الشيطان إلى من هم أضل من الأنعام.
بقلم المشرف
 
Top