داخل المعتقل.. عسل لبن كرموس هندي | موقع بصائر GuidePedia

0






عسل لبن كرموس هندي.. لم يكن هذا طعامي في ضيافة الشرطة القضائية، فالعنوان تحوير للمثل المصري "لبن عسل تمر هندي" ويعبرون به عن حالة الفوضى أو عمن يريد أن يقول أي شيء وكل شيء، أو عن موضوع غير مترابط وغير متناسق، أو عن فبركة وكذب وافتراء.





"عسل لبن كرموس هندي" تناولت فيه كل تلك المعاني، ساردا مذكراتي وملاحظاتي ومشاهداتي ومعاناتي.. خلال اثني عشر يوما قضيتها معتقلا في كوميسارية المعاريف.


معاناة تختزل ما نعيشه في معتقل كبير اسمه المغرب.. هو أيضا عنوان لخلطة من الملكية وإمارة المؤمنين والنظام البرلماني والمالكية والأشعرية والقبورية والحداثة والديمقراطية.. معاناة أحكيها بسخرية ممزوجة بمرارة.





لست أدري لماذا تم اختيار تاريخ 16 ماي لاستدعائي لكوميسارية المعاريف؟؟ هل لذلك علاقة لإبقاء هذا التاريخ حيا؟ بإبقاء هذا الملف عالقا؟ من أجل الاسترزاق به من جهة، وتخويف الشعب من جهة أخرى؟ أم تراها مجرد مصادفة؟





على كل حال، فقد استدعتني الشرطة القضائية، أو الحجاج أو جماعة العلويين، فكلها عناوين لمسمى واحد، الكل هناك حاج حتى صغار السن، والكل ينتمي للنسب العلوي، فلا تسمع إلا النداء بالحاج أو العلوي، ولم أفهم لماذا هذه الصفة وهذا الانتساب تحديدا، لكن ما لن أستطيع إنكاره هو التعامل الراقي الذي عاملني به هؤلاء الحجاج العلويون من المنتسبين إلى الشرطة القضائية بمختلف رتبهم ومستوياتهم، حيث كان الكل يناديني بالأستاذ أو سي مصطفى، و صرحوا لي أن الأمر يتعلق ببعض المعلومات البسيطة، والإجراءات العادية، قبل أن يخلى سبيلي، وكانوا يحترمون رغبتي في إيقاف التحقيق إن شعرت بالتعب أو حضور وقت الصلاة، وغيرها من الأمور.





لكن بعيدا عن هذا التعامل الإنساني وبعيدا عن حسن النوايا، دعونا نغوص في بعض التفاصيل والتي شكلت بالنسبة لي الجزء الظاهر من جبل جليد مؤامرة دنيئة وحقيرة نسجت خيوطها المخابرات، وأخرجتها للرأي العام جرائد صفراء مرتبطة بها وتدور في فلكها، بمساعدة الشرطة القضائية التي لم تحترم سرية البحث، حتى أنك أصبحت لا تفرق بين الشرطة القضائية والمخابرات وبعض الجرائد الصفراء التي تفتري: "الأحداث"، " الخبر"، "الصباح"، "النهار"، في خلطة أشبه بالخلطة التي ذكرناها في العنوان.





بدأ معي المحقق من الولادة، بل ما قبل الولادة، فسألني عن عالم الذر وعن عالم الأجنة والمضغة والعلقة، عن نشأتي وطفولتي ودراستي، عن صلاتي ونسكي، عن أحلامي وآمالي، عن حبي عن دقات قلبي، عن كل فتاة أحببتها، وعن تلك التي هجرتها، عن اتصالاتي وعلاقاتي وكتاباتي، عن كل شيء كتبته وحتى الذي محوته، سجلوا كل شيء في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.





قال لي المحقق أن خرجاتي الإعلامية المكتوبة والمصورة تثير الفتنة والبلبلة داخل المجتمع، لم أكن أظن أنني بهذا الحجم وبهذا التأثير وبهذه الأهمية، علاقاتي المتعددة كانت محط تساؤل، حيث واجهني المحقق بسؤاله الغريب: لماذا أنت مقبول عند جميع التوجهات الإسلامية؟ و سرد علي عدة أسماء لشخصيات إسلامية بارزة تربطني بها علاقة تواصلية أو صداقة أو عمل، فأجبته ببساطة لأنني صحفي، و سردت عليه أسماء شخصيات علمانية أو يسارية أعرفها، وأتعامل معها.





ثم أثار معي ملف المعتقلين الإسلاميين وعلاقتي به، فأجبته أن علاقتي بالملف إعلامية وحقوقية، وأني عضو بمنتدى الكرامة، فسألني عن الأستاذ حامي الدين، وهل يكلفني بكتابة المقالات، وهل يكتب بأسماء مستعارة، ومن وراء الفيديوات والتحقيقات المصورة التي أنجزتها، وهل لي علاقة بتسريب بعض أشرطة المعتقلين، وأي علاقة تربطني بحارس الرجاء البيضاوي خالد العسكري؛ خشيت على ابن مدينتي خالد العسكري من توريطه في خلية تضم 11 لاعبا، فكل شيء ممكن في هذه البلاد العجيبة، سألوني عن الأموال التي أتلقاها من الخارج، وعن علاقتي بالحركة الإسلامية بأوزبكستان، وبخلية دوسلدورف بألمانيا، شعرت أن ملفا ضخما يطبخ، فهددت المحقق بالإضراب عن الكلام والطعام، وطلبت مقابلة أكبر حاج عندهم، فأخذوني إلى مكتبه فاستفسرته عن هذا المسار الذي ينحوه التحقيق، لأجد نفسي بعد ذلك أصبحت "صحفي جهادي"، والحمد لله فقد نجوت من تهمة "سلفي جهادي"، رغم أني كنت قاب قوسين أو أدنى منها، ولم يفصلني عنها سوى حرفين.





أعجبني هذا اللقب خاصة وأن من يمكن أن يوصف به قلة قليلة، كتيسير علوني وسامي الحاج وحيدر شائع وأكرم حجازي، ولي الشرف أن أكون أول من يطلق عليه هذا الوصف، لأن الصحافة في نظري يجب أن تكون جهادية ونضالية ومقاومة.





سألت المحققين أين تضع معاييرهم الصحفي "روبرت فيسك" ومواقفه، ولقاءاته، وتغطياته؟


لم يذكرهم هذا الاسم الأجنبي إلا بعلاقتي بالقاضي الإيطالي نيكولا كواترانو، والحقوقي البلجيكي لوك فيرفاي، والمواطن المغربي اليهودي والفاعل الحقوقي سيون أسيدون، أجبتهم أن علاقاتي لا حدود لها باعتباري إعلاميا و ناشطا حقوقيا، وقبل ذلك باعتباري إنسانا يتعارف ويتواصل ويتحاور، وأن علاقاتي شرعية وقانونية، طالما أنه لا تربطني أي علاقة تنظيمية بجهة أو شخص تعود بالضرر على الوطن والمواطنين.





كل أجوبتي لم تكن مقنعة لأني تجاوزت الحدود، ودائرة علاقاتي تتسع، وأصبحت مزعجا وأنا في بداية الطريق، ففكر المحقق أو المخبر ثم قدر، ثم فكر و قدر، فرأى أن لا مخرج لهذه القضية إلا ببعث محاولة هجرتي لأفغانستان من مرقدها بعد أن مرت عليها أربع سنوات، واختلاق محاولة لسوريا لا وجود لها بتاتا، لأجد نفسي وسط عصيدة من اللبن والعسل والكرموس الهندي، ولأوقع على حوالي مائتي صفحة هي مجموع الأوراق المكررة والمعادة والمصححة لهذه العصيدة المسماة "محضر الشرطة القضائية"، ليهرول المحقق لتسليم نسخة للجرائد المخابراتية من الباب الخلفي لمقر الشرطة، هذا إن لم يكن لتلك الجرائد مكاتب داخل مقر الشرطة، أو للشرطة مكاتب داخل مقرات الجرائد، وهو أمر لا يستغرب ولا يتناقض مع عصيدة العسل واللبن والكرموس الهندي التي أصبح المواطن العادي يرى أثارها في كل ركن وزاوية من هذا الوطن.





أما عصيدتي مع التحقيق فلم تكتمل، ذلك أني لما كانت تنتهي معاملتي كإنسان محترم أثناء التحقيق، رغم المكيدة والمؤامرة التي كانت تحاك في الكواليس، كانت فصول أخرى من المعاناة تنتظرني في الزنزانة حيث لا كرامة ولا إنسانية.





في أول يوم بقي التحقيق مستمرا إلى حدود العاشرة ليلا، بعدها تم تقييد يدي وإنزالي إلى الطابق تحت أرضي، حيث تم تفتيشي وطلب مني إزالة رباط حذائي وخاتم زواجي، وتم إدخالي للزنزانة ورميي ككلب ضال، فبقيت ليلتي بلا طعام ولا نوم إلى أن أذن الصبح.





يبلغ طول الزنزانة 5 أمتار وعرضها مترين وعلوها 3 أمتار تقريبا، مزودة بكاميرا مراقبة، وبابين، أحدهما مثبت لا يفتح عبارة عن شباك من القضبان الحديدية المجوفة، الزنزانة متسخة ورطبة، وباردة بما فيه الكفاية لجعلك تتأذى وتعاني، وقد كانت الإثنا عشر يوما التي قضيتها هناك كافية لأعاني من كثرة التبول، وآلام في المفاصل والظهر، وعلى مستوى العينين والجلد، خاصة مع وجود أنواع من الحشرات، أحصيت منها ذات ليلة رتيبة 160 من نوع واحد فقط، ومن بين الأنواع التي حصل لي شرف معرفتها آنسة فاتنة شقراء، تدعى "ناموسة"، وأخرى رشيقة سمراء ذات قدّ ميّاس، تسمى "بعوضة" كانتا مغرمتان بي تتناوبان على التحرش بي كل ليلة، كانت بشرتي السمراء مصدر إغراء وإثارة لا تقاوم بالنسبة لـ"ناموسة" والشقراوات من بنات جنسها، وكانت مغرمة بي أشد الغرام، ولم أكن للأسف أبادلها نفس الشعور، لذلك كانت تتحين فرصة نومي لتنهال على كل بقعة عارية من بشرتي، مصا ورشفا وتقبيلا، وأنهك كل صباح في إزالة علامات قبلاتها التي تطبعها على بشرتي، ولا أدري أي نوع من أحمر الشفاه كانت تستعمل تلك اللعينة، حيث كانت تفشل كل محاولات مسحه أو غسله فأتخيلني راجعا للبيت عند زوجتي، وأتخيلها تصرخ غاضبة ارجع لحضن التي كنت معها، عد من حيث أتيت، فأستعيذ بالله من هذا الظن السيئ وهذا الفأل الأسوأ.





الرتابة والهدوء والصمت وطول الوقت، كلها تساعد على مضاعفة التعذيب، فقد كان اليوم يمر كأنه شهر، أحسست أنني قضيت هناك سنة كاملة، وقد كان احتجازي طوال تلك المدة مقصودا، لأن التحقيق الفعلي لم يستمر إلا يوما واحدا أو يومين على أبعد تقدير، ثم كان بعد ذلك ما يشبه النقاشات والمساجلات، لكن رغم ذلك فقد حاولت التغلب على المشاكل والمصاعب، فما من مشكلة إلا و هناك تقنية لتجاوزها، وقد كنت أمارس الرياضة صباحا في زنزانتي، فأذرعها جيئة وذهابا كما في فيلم "Papillon".





ورغم أن الزنزانة شديدة الحراسة، بطريقة أشبه بحراسة وتأمينات السجون العتيدة كما نراها في الأفلام، سجن "ألكاتراز " على سبيل المثال، إلا أن إمكانية الهرب من الزنزانة بدت لي ليست مستحيلة، فمع كثير من الحظ وقليل من الوقت، وحتى مع قليل من الحظ وكثير من الوقت، يمكن ذلك، لكن بطبيعة الحال لا معنى لفكرة من هذا النوع خاصة في سجن تابع للشرطة.





قضيت مدة اعتقالي أتلو القرءان في وقت فراغي، فاستطعت ختم القرءان مرتين خلال تلك المدة، لكن الشيء الوحيد الذي تمنيت أن لو كان معي في زنزانتي هو قلمي، طلبت القلم مرارا لكنهم أخبروني أنه ممنوع، قصة المنع عجيبة ومضحكة في الآن ذاته، خاصة مع بعض الحراس النصيين الذين يتعاملون مع الأوامر والتوجيهات بحرفية وظاهرية غبية، فبعضهم يطلب منك إزالة رباط الحذاء كي لا تؤذي أو تشنق به نفسك، حتى إن كان طوله لا يتجاوز عشر سنتمترات، رغم أن كل وسائل الانتحار متوفرة في الزنزانة، بل إن هناك قضبانا حديدية مثبتة في أعلى الزنزانة تصلح لأن تكون أعواد مشانق.


حينما يتلقى بعض الحراس توجيهات بمنع إدخال سدادات قنينات الماء أو الدواء أو المشروبات خشية أن يبتلعها السجين، فإن بعض الحراس ذوي العقل الرشيد والفهم السديد، يمنعون كلما يمكن أن نطلق عليه غطاء أو سدادة، حتى إن كان غطاء سطل أو برميل بقطر 20 سنتمترا.





كنت فقدت الوعي في اليوم الخامس، وتم حملي على متن سيارة إسعاف إلى مستشفى "مولاي يوسف" بعدها بدأت آخذ حبة دواء كل ليلة، يسلمني إياها الحارس و يعيد معه العلبة؛ كان في كل مرة يطلب مني أن أتناولها أمامه وأن أفتح فمي أمامه وأرفع لساني ليتأكد أني ابتلعتها، ربما كان يخشى أن أصنع من مكوناتها قنبلة نووية تنسف مقر الشرطة القضائية فتذره قاعا صفصفا.





بعد مدة احتجازي من طرف المخابرات أو الشرطة القضائية أو هما معا لا أدري تحديدا، تم إرسالي مقيد اليدين في سيارة شرطة إلى محكمة الاستئناف بحي الرياض بالرباط؛ انطلقت السيارة بسرعة جنونية لا تحترم أي إشارة أو علامة مرورية، لأن من يملك القانون في هذه البلاد يملك حق مخالفته، بل يجعل من مخالفته تلك قانونا يحترم، ويصفق له الرعاع؛ و قد أبدع أحمد مطر حين قال: من يملك القانون في بلادي يملك حق عزفه.





كانت السيارة كلما توقفت فجأة أو قامت بانعطاف يصطدم رأسي، أو أسقط ولا أجد ما أتقي به لأن يداي مقيدتان، في حين كان السائق يضع حزام السلامة، الأمر أشبه فعلا بهذا الوطن.. تقوده فئة متهورة بسرعة جنونية نحو المجهول، تؤمن نفسها في حين المواطن يتلقى الضربات و الكدمات.





في المحكمة، لاحظت أن كل متهمين يقيدان بصفد واحد، فخمنت أن عدد الأصفاد في بلادنا هو نصف عدد السكان.





وفي انتظار ما ستؤول إليه هذه العصيدة سأحجم عن أي تعليق، لأن في الجعبة ما يقال، وكل عصيدة وبلادي بألف خير.





إرسال تعليق Blogger

 
Top