توصيف دقيق وتحليل عميق لواقع الأمة اليوم!! | موقع بصائر GuidePedia

0




"اقتضت حكمة الله العزيز الحكيم أن يأكل الظالم الباغي ويتمتع في خفارة(1) ذنوب المظلوم المبغي عليه؛ فذنوبه من أعظم أسباب الرحمة في حقِّ ظالمه(2)، كما أن المسؤول إذا رد السائل فهو في خفارة كذبه، ولو صدق السائل لما أفلح من ردَّه(3)، وكذلك السارق وقاطع الطريق في خفارة منع أصحاب الأموال حقوق الله فيها، ولو أَدَّوا ما لله عليهم فيها لحفظها الله عليهم(4).
وهذا -أيضاً- باب عظيم من حكمة الله، يطَّلع الناظر فيه على أسرار من أسرار التقدير، وتسليط العالَم بعضهم على بعض، وتمكين الجناة والبغاة(5)، فسبحان من له في كلِّ شيء حكمةٌ بالغة وآيةٌ باهرة؛ حتى إِنَّ الحيوانات العادِيَة على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيش في خفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يُسَلَّطْ عليهم منها شيء(6)..


(...) ويُحكى أن بعض أصحاب الماشية كان يشوب(7) اللبن ويبيعه على أنه خالص، فأرسل الله عليه سيلاً فذهب بالغنم، فجعل يعجب، فأُتِيَ في منامه، فقيل له: أتعجب من أخذ السيل غنمك؟! إنما هي تلك القطرات التي كنت تُشيب بها اللبن اجتمعت وصارت سيلاً(8).


فَقِسْ على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك(9)، تعلم حينئذٍ أن الله قائم بالقسط، وأنه قائم على كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم مثقال ذرة..


(...) وتأمَّل الحكمة في حبس الله الغيث عن عباده، وابتلائهم بالقحط إذا منعوا الزكاة وحرموا المساكين، كيف جوزوا على منع ما للمساكين قِبَلَهم من القوت بمنع الله مادة القوت والرزق وحبسها عنهم، فقال لهم بلسان الحال: مَنَعتم الحق فمُنِعْتُم الغيث، فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلكم؟(10)


وتأمَّل حكمة الله -تعالى- في صرفه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصدَّهم عنه كما صدُّوا عباده؛ صدًّا بصد، ومنعاً بمنع(11).


وتأمَّل حكمته -تعالى- في محق أموال المرابين، وتسليط المتلفات عليها، كما فعلوا بأموال الناس ومحقوها عليهم وأتلفوها عليهم بالربا؛ جوزوا إتلافاً بإتلاف، فقلَّ أن ترى مرابياً إلا وآخرته إلى محق، وقلة وحاجة(12).


وتأمَّل حكمته -تعالى- في تسليط العدوِّ على العباد إذا جار قويُّهم على ضعيفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقُّه من ظالمه؛ كيف يُسَلّط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء، وهذه سنة الله -تعالى- منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها(13).


وتأمَّل حكمته -تعالى- في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأنَّ أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم(14)؛ فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وبخلوا بها عليهم(15)، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم، أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضَرَبت عليهم المكوس والوظائف(16) وكلُّ ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعُمَّالهم ظهرت في صور أعمالهم(17)، وليس في الحكمة الإلهية أن يولَّى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم(18).


ولما كان الصدرُ الأولُ خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شيبت لهم الولاة(19).


فحكمة الله تأبى أن يولى علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلاً عن مثل أبي بكر وعمر(20)، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها(21)، ومن له فطنه إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الإلهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه كما في الخلق والأمر سواء".


العلامة الحافظ: ابن قيم الجوزية رحمه الله
"مفتاح دار السعادة" (2/175-178) ط. دار ابن القيم وابن عفان
تحقيق: علي الحلبي/مراجعة: بكر أبو زيد رحمه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:
(1) الخفارة: الذمَّة. "لسان العرب" (خفر).
(2) وذلك يوم القيامة؛ فيخفف عن ظالمه بسببها.
(3) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس أموالهم تكثُّراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر" رواه مسلم.
(4) والجزاء من جنس العمل ظلماً بظلم وبغياً ببغي.
(5) تمكين كوني لا شرعي، فتنبه.
(6) قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "[عن] الأصمعي عن أبيه قال: كان شيخ يدور على المجالس ويقول من سره أن تدوم له العافية فليتق الله -عز وجل-. فمتى رأيت -وفقك الله- تكديراً في حال فتذكر ذنباً قد وقع، فقد قال الفضيل بن عياض: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. وقال أبو سليمان الداراني: من صفا صفي له، ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. وقد روينا عن بعض الصالحين أنه انقطع شسع نعله في عدوه إلى الجمعة، فقال: إنما انقطع لأني لم أغتسل للجمعة". "ذم الهوى" (1/185).
(7) أي: يخلطه بالماء.
(8) خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقي
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
(9) وكم رأينا ونرى عندنا وعند الورى، وإذا عشنا فسنرى!
(10) هَبْ أيها المسلم الثائر! أن ظلم الحاكم -وحده- منعك رغيف الخبز، وببغيه -فقط- غلا ثمنه عليك، فما الذي منع نزول الغيث من السماء؟!
(11) نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، ومن الغواية بعد الرشد.
(12) كما قال -تعالى-: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
(13) فلا يغترَّن ظالم بقوَّته، ولا جبَّار بجبروته، فالله أقدر عليه منه على غيره.
(14) قال الطرطوشي -رحمه الله-: "لم أزل أسمع الناس يقولون: "أعمالكم عمالكم، كما تكونوا يولى عليكم" إلى أن ظفرت به في قوله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}". "سراج الملوك" (ص:101).
(15) جاء في "تذكرة الموضوعات" (1/182) للفتني: "إن الله -تعالى- يقول: أنتقم ممن أبغض بمن أبغض، ثُمَّ أصيِّر كلاً إلى النار. ومثله: "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً..." الآية، وقرأت بخط شيخنا: لا أستحضر هذا الحديث، ومعناه دائر على الألسنة، وسبقه الزركشي فقال: لم أجده. "كما تكونوا يولى عليكم أو يؤمر عليكم"، في سنده انقطاع ووضاع هو يحيى بن هاشم، وله طريق فيه مجاهيل، وعند الطبراني في معناه من طريق عمر وكعب والحسن "الناس بزمانهم أشبه منهم آبائهم" من قول عمر -رضي الله عنه-: "الناس على دين ملوكهم" لا أعرفه حديثاً وهو قريب مما قبله، ويتأيد بما للطبراني مرفوعاً: " إن لكل زمان ملكاً يبعثه الله على نحو قلوب أهله فإذا أراد إصلاحهم بعث إليهم مصلحاً وإذا أراد هلكتهم بعث فيهم مترفيهم".اهـ
قلت: وهذا الحديث المذكور: "كما تكونوا يولى عليكم" وإن كان صحيح المعنى في الأعم الأغلب، إلا أنه ضعيف الإسناد لا يصح رفعه إلى نبي الأمة -عليه الصلاة والسلام-، وانظر لبيان ضعفه: "كشف الخفاء" للعجلوني (2/1997)، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (624)، و"تذكرة الموضوعات" للفتني (182)، وضعفه الألباني في "السلسة الضعيفة" (1/490)، و"ضعيف الجامع" (4275).
(16) كان يقال: ما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملك.
وقال عبد الملك بن مروان: ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدونا منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبي بكر وعمر.
(17) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فتنة كل زمان بحسب رجاله، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وفتن ما بعد ذلك الزمان بحسب أهله، وقد رُوي أنه قال: "كما تكونوا يولى عليكم"، وفي أثر آخر يقول الله -تعالى-: "أنا الله -عز وجل- ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم".
ولما انهزم المسلمون يوم أحد -هزمهم الكفار- قال الله -تعالى-: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}، والذنوب ترفع عقوبتها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفرة".اهـ "منهاج السنة النبوية" (4/328).
(18) قال العجلوني: "عن الحسن أنه سمع رجلاً يدعو على الحجاج، فقال: "لا تفعل، إنكم من أنفسكم أتيتم، إنا نخاف إن عزل الحجاج أو مات أن يتولى عليكم القردة والخنازير"، فقد روي أن: "أعمالكم عمالكم"، و"كما تكونوا يولى عليكم"، وفي فتاوى ابن حجر: "وقال النجم: روى ابن أبي شيبة عن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله -تعالى-: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً}، ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم؛ إذا فسد الناس أمّر عليهم شرارهم، وروى البيهقي عن كعب قال: إن لكل زمان ملكاً يبعثه الله على نحو قلوب أهله، فإذا أراد صلاحهم بعث عليهم مصلحاً، وإذا أراد هلاكهم بعث عليهم مترفيهم. وله عن الحسن: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه الصلاة والسلام، قالوا: سل لنا ربك يبين لنا علم رضاه عنا وعلم سخطه؟ فسأله، فقال: أنبئهم أن رضائي عنهم أن أستعمل عليهم خيارهم، وإن سخطي عليهم أن أستعمل عليهم شرارهم". "كشف الخفاء" (2/127).
(19) قال المناوي -رحمه الله-: "إذا صلح الناس وبروا وليهم الأخيار، وإذا فسدوا وفجروا وليهم الأشرار". "فيض القدير" (3/246).
(20) هذا في زمان العلامة ابن القيم -رحمه الله- المتوفى (751هـ) فكيف بزماننا؟!
(21) قال شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله-: "ذكروا أن رجلاً من الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب جاء إلى علي فقال له: يا علي! ما بال الناس قد تغيروا عليك ولم يتغيروا على أبي بكر وعمر؟
قال: لأن رجال أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورجالي أنت وأمثالك". "شرح رياض الصالحين" (1/220).

إرسال تعليق Blogger

 
Top