العالم العربي انتحارات.. ثورات.. وأشياء أخرى.. | موقع بصائر GuidePedia

2


 

البداية كانت من تونس، حيث انتحر الشاب محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسمه، "احتجاجا" على إهانته من قبل رجال الأمن، ثم لحقت تونسَ الجزائرُ ومصر وموريتانيا والمغرب والسعودية، فقد حاول عدد من الناس في هذه الدول الانتحار أيضا على الطريقة "البوعزيزية"، كنوع من الرفض والتمرد على الاستبداد والجور(!!)، وأيضا كصورة معبرة عن مدى الإذلال والتفقير الذي تعانيه مكونات عريضة في المجتمع المسلم.
وقبل أن نواصل هذا الحديث ذا الشجون، لابد من وقفة شرعية مع ذلك السلوك البشع، والتصرف الشنيع الذي يعد من أشد المنكرات، ومن أعظم الكبائر التي توبق مرتكبها في نار جهنم، فقد جاءت النصوص الشرعية بالوعيد الشديد والعقاب الأكيد لمن يعتدي على نفسه أو على غيره بالقتل، فهذا قول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء:93)، هذا فيمن قتل غيره، فكيف بمن يقتل نفسه؟!! وقوله سبحانه ناهيا عباده عن قتل أنفسهم ومذكرا لهم بفضله ورحمته: {وَلاَ ‏تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29).


وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» (البخاري:3463)، فالرجل المذكور في الحديث كان به جرح، ولشدة المعاناة قتل نفسه، فحرم الله عليه الجنة، وفيه رد على من يسمون بالثوريين والمناضلين الذين دافعوا عن البوعزيزي، فقالوا إنه قتل نفسه بسبب المعاناة وقسوة الظروف الاجتماعية.


إننا أمام سيل جارف من السلوكيات الدخيلة الغريبة على حضارتنا، المرفوضة في ديننا، سيل يحمل كل ما في طريقه من الغثاء، ولا يصمد في وجهه إلا من كان على بينة من دينه، ودراية بما يحاك في الداخل والخارج من مؤامرات ترمي للنيل مما تبقى من تماسك بين أعضاء جسد الأمة المثخن بالجراح.


والمصيبة أن تتعالى أصوات هنا وهناك مرددة شعرا لواحد ممن قال عنهم الحق سبحانه أنهم في كل واد يهيمون..، فجعلوا قدَر الله يمضي وفق إرادة الشعب!! تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.


المصيبة أن نرى ونسمع من يلقب المنتحر التونسي بالشهيد!!، بل "منحوا" الشهادة أيضا لكل أولئك الذين لقوا حتفهم في المظاهرات والفوضى التي أعقبت إحراق البوعزيزي لنفسه في تونس ومصر..


فيا ليت شعري، هل قُتِل كل هؤلاء في حرب ضد بني صهيون حتى نحتسبهم عند الله شهداء؟ أم يا ترى سقطوا بنيران قوات الاحتلال بالعراق؟


مهلا أيها الثوار.. فما أبعد طريقتكم عن الإصلاح!

صحيح أن التونسيين والمصريين عانوا لعقود طويلة تحت نير العلمانية المتطرفة، فشعب تونس المسلم لم ينس سنوات الاستبداد والإهانة على يد الهالك بورقيبة، كما لن ينسى جور بن علي الذي أكمل المهمة القذرة لسلفه بمواصلة التضييق على كل من يحاول الالتزام بشعائر الدين الحنيف، والتمكين في المقابل لكل مظاهر التغريب والفساد والإفساد؛ فيما عانى المصريون سياسة تفقير وتجويع من نظام كاد أن يقول بلسان المقال -بعد أن قال بلسان الحال-: "أنا ومن بعدي الطوفان"، نظام حسني مبارك الذي امتص دماء شعبه حتى تحدثت بعض المصادر عن أن ثروته تقدر بـ 70 مليار دولار!! ثروة تكفي لسداد ديون دولة أو دولتين من أفقر الدول، فيما يقطن بعض المصريين بالمقابر!!! إنه الفقر الذي كاد أن يكون كفرا، إنه الضغط الذي يولد الانفجار، إنه البؤس والإهانة التي قد تصل بالمرء إلى درجة من اليأس تعمي بصيرته، وتجعل الدنيا سوداء مظلمة في عينيه، حتى لكأنها ليس فيها موضع نقطة من الرحمة أو الخير.


لكن الصحيح أيضا والمؤكد قطعا أن تلك الدرجة من اليأس لا يمكن أن تجد لها طريقا إلى قلب عبد مؤمن بقضاء الله وقدره {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر:56)، وأن تلك الصورة القاتمة لهذه الحياة الدنيا يستحيل أن ترتسم في مخيلة من أيقن بوعد ربه وجزائه للصابرين {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10).


ولسنا هنا -حين نُذَكِّر بالصبر- ممن يعلق المصائب والمآسي على شماعة القضاء والقدر، حتى تنصرف الأنظار والأفهام عن ظلم الظالمين، ولا ممن يحزن على انهيار نظام فاسد أو يأسى على قوم فاسقين، لكننا نريد نهج سبيل المرسلين، وسلوك طريق المؤمنين في التغيير؛ فمتى كان الانتحار وسيلة للتعبير عن رفض الظلم؟ ومتى كانت المظاهرات -في منهج الأنبياء والمرسلين- سبيلا لإصلاح الأمم؟!


لقد سقط النظام التونسي، ثم تبعه نظيره المصري، فكثر اللغط وبرز السؤال الكبير: من التالي؟


لكن السؤال الأهم الذي غفل عنه أو إن شئت فقل تغافل عنه أكثر الناس، هو: ماذا بعد سقوط النظامين بتونس ومصر؟؟


بصيغة أخرى: هل بسقوطهما ينتهي الظلم والاستبداد ليحل محلهما العدل والرخاء؟ أم أننا أمام فوضى بكل ما تعنيه الكلمة؟!!


ألا يذكرنا ما حصل بما "بشرت" به عصابة المحافظين الجدد في الحكومة الأمريكية السابقة في ما سُمِّي بنظرية "الفوضى الخلاقة"؟


ثم إن إطلالة سريعة على قائمة أسماء متزعمي الثورتين تكفي لمعرفة نتيجة هذا الحراك الشعبي غير المنضبط بضوابط الشرع، فقادة الثورتين هم أنصار الدولة المدنية من علمانيين وليبراليين وشيوعيين، وكل ناعق بقرارات الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان بنكهة غربية، أما حزب النهضة التونسي وتنظيم الإخوان المصري فما نراهما إلا سيلدغان من نفس الجحر مرة أخرى..


أثم إذا ما وقع آمنتم به؟؟
لقد أصبحنا في كل عام على موعد مع مفاجآت مزلزلة تهدد كياننا، وتعصف بقيمنا ومقومات حضارتنا، وما ذلك إلا شيء يسير من الحصاد المر الذي جنته الأمة من السياسات العلمانية التي تحارب ثوابت الدين، وتضيق على تجليات الهوية الإسلامية، وتعتم على مختلف مظاهر التدين لحساب ذلك المسخ الثقافي والنكوص الحضاري القادم من الغرب، تحت مسمى الحداثة والحريات الفردية، وما لم يضع من ولاهم الله أمور المسلمين حدا لهذا التردي الأخلاقي والانتكاس القيمي، وقبل ذلك كله الحسم مع كل الانحرافات العقدية، وانتهاك حرمة الدين، وامتهان كرامة الإنسان..، فإننا متجهون -لا محالة- نحو مزيد من الفتن والقلاقل، والسعيد من وُعظ بغيره، والعاقل من يفهم الدرس، ويتجنب الأخطاء التي أهلكت أقرانه..


إن ما حصل ويحصل من تغيرات يتداخل فيها ما هو ثقافي بما هو اقتصادي واجتماعي في المجتمعات الإسلامية، يدل على أن الأمة تشهد تسارعا واضحا باتجاه مزيد من تأزم الأوضاع على كافة المستويات، ولا شك أن المتابع لتلك التحولات يدرك يقينا مدى خطورة المرحلة التي نمر بها في السنوات الأخيرة، وذلك عين ما أخبر به الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- من فتن وأهوال ستحل بالأمة بعد أن تتنكب صراط ربها وتعرض عن منهجه القويم، والمُعَوَّل على الله سبحانه أن يرد بنا إلى دينه ردا جميلا، ثم على علماء الأمة الربانيين، الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في تبليغه لومة لائم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


PostHeaderIcon توصيف دقيق وتحليل عميق لواقع الأمة اليوم!!

PostHeaderIcon توصيات المؤتمر السلفي حول الأحداث الأخيرة بمصر

إرسال تعليق Blogger

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    بداية احييك و ابارك لك الوصلة الجديدة لموقعك الجميل و الهادف و أتمنى لك دوام التوفيق.
    قال تعالى : وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران: 129.
    و روى مسلم في صحيحه ‏أن رسول الله ‏‏ صلى الله عليه وسلم ‏ ‏حدث ‏ ‏أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان وإن الله تعالى قال: من ذا الذي ‏ ‏يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان! فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك. ‏
    و عليه فليس من حقك او من حق غيرك ان يجزم ان ما اقدم عليه المرحوم البوعزيزي من حرق لنفسه يدخله النار او الجنة فالمسألة متروكة للخالق وحده و لا يخق لنا نحن البشر الخوض فيها ..
    اما مسألة قضاء الله و قدره فنحن جميعا نؤمن به و هذا ما يعطينا نفس اطول على الصبر ثم الصبر ثم الصبر لكن هذا لا يعني ان نستسلم طول عمرنا للظلم و القهر و الذل و الفساد و الطغيان إن الله لا يحب الظالمين ..
    لقد قلت ومتى كانت المظاهرات -في منهج الأنبياء والمرسلين- سبيلا لإصلاح الأمم؟!
    هل منهج الأنبياء والمرسلين هو طاعة و ولاء من يظلمنا و يذلنا و يهضم حقوقنا و و يسلب حريتنا ؟؟
    هل توجد آية فى القرآن تحرم المظاهرات او المسيرات ؟؟
    و هل هناك احاديث تجرم المظاهرات او المسيرات ؟؟
    هل توجد آية فى القرآن تحرم المظاهرات او المسيرات ؟؟
    و هل هناك احاديث تجرم المظاهرات او المسيرات ؟؟
    عن اي منهج تتحدث اخي في الاسلام ؟؟

    ردحذف
  2. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    أشكرك أخي أحمد، ويسعدني جدا تواصلك الدائم مع المدونة، كما يسعدني تعليقك هذا على الموضوع
    وردا على كلامك أخي أقول وبالله التوفيق:
    ما فعله محمد البوعزيزي هو أمر منكر شرعا بأدلة ثابتة دامغة لا تقبل تأويلا ولا تحتمل تعليلا، ولا أخالك أخي ممن يزايد على حكم شرعي واضح في أي مسألة، وإنما أظنك لم تفرق بين حكم الشرع في مسألة، والحكم على فاعلها بالتعيين إن كان من أهل النار أو من أهل الجنة.
    فأنا ذكرت فقط حكم الانتحار المقرر في دين الإسلام، وما جزمت بكون المنتحر فلان في النار، ومثال ذلك أن تقول: "إن من استغاث بميت أو طلب منه أي شيء فهو كافر" فهذا حكم شرعي عام، لكن لا يجوز بحال أن تقول: "فلان (وتذكر اسمه) كافر لأنه استغاث بميت" لأن العلماء يقولون: "ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه" إذ لابد من النظر في حال ذلك الشخص من حيث توفر الشروط وانتفاء الموانع..، وهذا الأمر ليس لآحاد الناس
    ولذلك أخي، فقد ذكرت حكم المنتحر بشكل عام ولم أحكم أبدا على كون البوعزيزي في النار، وإنما قصدت بيان شناعة فعلته وعظم الجرم الذي اقترفه في حق نفسه، أما مصيره فإلى الله عز وجل، وفي هذا الإطار عِبتُ على من أسموه بالشهيد، إذ لا يجوز وصف شخص بعينه بكونه شهيدا، وإنما يرجى له ذلك، هذا إن كان موته قتالا في سبيل الله، فكيف بمن قتل نفسه؟؟؟
    أما ما قلته بخصوص الظلم والذل والفساد..، فأقول يا أخي إن الأمور بمآلاتها، والعبرة في كل شيء بخاتمته، وعليه فإن الصبر على الظلم والاستبداد -فضلا عن الكفر- ليس واردا إلا في إطار انعدام القدرة على إزالته، بحيث يترتب على محاولة إزالته -مع العجز عن ذلك- حصول المزيد منه، ولذلك يشبه كثير من العلماء المعاصرين الفترة التي نعيشها بالفترة المكية زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي فترة الدعوة والصبر على ذلك، لأن قدرات المؤمنين بضرورة إقامة شرع الله ضعيفة لا تكفي لمواجهة إمكانات الطغاة والمفسدين المسيطرين حاليا على معظم بلاد المسلمين..
    أما مسألة المظاهرات فمن المسائل المرتبطة بالمصلحة كما يقول بعض أهل العلم، بمعنى أنها ليست محرمة لذاتها، وإنما ينظر فيها، فإن ترجح حصول مصلحة منها فحكمها الجواز، وإن كان العكس فالعكس.
    وأما حدث في تونس ومصر وبما أن المتزعمين للثورتين بالبلدين (كما ذكرت في الموضوع) هم من العلمانيين ومن سار سيرهم فإنني قلت أن الدخول في ذلك يعني الذوبان في خضم المطالب التي رفعها أولئك المنحرفون (العلمانيون)
    ولا يعني ذلك -كما ذكرت أيضا- عدم الفرح بإزالة الحكام الظالمين، وإنما لا ينبغي أن نفرح بشيء لم يتحقق، فالثائرون يزعمون أن تورتهم حققت أهدافها، بينما نرى أن إزالة بن علي أو مبارك ليست سوى بتر للجزء الظاهر من جبل الجليد الفاسد..
    نقطة مهمة جدا قبل أن أختم كلامي وهي أن ما يحصل حاليا بليبيا مختلف كثيرا عما حصل بتونس ومصر، فالليبيون الآن يواجهون مجرم حرب أعلن عليهم الحرب، فهم في جهاد دفع، نسأل الله سبحانه أن ينصرهم على ذلك الطاغية المعتوه ومرتزقته.
    الأمر أيضا يختلف في البحرين وشرق السعودية، لأن المتظاهرين هناك هم الرافضة الذين يريدون أن يركبوا الموجة لتحقيق مآرب خبيثة..
    الموضوع يا أخي طويل عريض، لكن أرجو أن تكون فكرتي قد وصلت
    ونسأل الله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأقوال والأفعال، لا يهدي لأحسنها إلا هو
    والله أعلم.

    ردحذف

 
Top