توني بلير فارس الحروب الصليبية | موقع بصائر GuidePedia

0
 

     التناغم والانسجام والهارمونية هي السمة العامة للعلاقات الأمريكية البريطانية، فكلا البلدين يمثلان باستمرار وامتياز الترجمة الحضارية للعقلية الاستعمارية البغيضة التي مثلت التزاوج المحرم بين العنصرية الأنغلوسكسونية المقيتة، والتعصب الكنسي الأعمى، والنهمة الأوروبية وراء ثروات الشرق المتوارثة من عصور ريتشارد قلب الأسد وعصابات الجرمان والفرنسيس، وعندما غابت شمس الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية، سارع سدنة الفكر والعقيدة الأنغلوسكسونية مثل برنارد لويس وبرجنسكي وكسينجر وغيرهم بالالتفاف حول الولايات المتحدة الأمريكية لتكمل مسيرة العجوز، وتلعب نفس الدور الإنجليزي المحوري الذي كرس لقرون ثقافة الرجل الأبيض المتحضر والمتفوق على غيره من الشعوب والأجناس.

     العقيدة الأنغلوسكسونية هي التي وفرت الأسس الأيديولوجية التي قامت عليها الحضارة الأوروبية الحديثة عامة والأمريكية والإنجليزية خاصة، وهي العقيدة التي تقوم على أساس الاعتقاد بأن السيد المسيح سـيعود إلى الأرض ثانية ليقيم "مملكة الرب" على الأرض والتي سـتدوم ألف عام (العصر الألفي السعيد)، ولتمهيد لذلك يجب تحقيق ثلاثة أمور:
   1- إقامة دولة إسرائيل بحدودها التوراتية من النيل للفرات، وتجميع اليهود فيها من كل بقاع الأرض انتظاراً لعودة المسيح.
   2- تدمير المسجد الأقصى وإقامة الهيكل مكانه.
   3- وقوع معركة فاصلة بين قوى الخير وقوى الشـر تسمى "هرمجدون"، والتي يعتقد كل رئيس لأمريكا أنه بطلها.
     هذه الأدبيات الأنغلوسكسونية هي التي رسمت شكل العلاقة بين أمريكا وانجلترا من ناحية، والصهاينة من ناحية أخرى، وأقامت حلفا مدنسا لتمكين يهود من البقاع المقدسة، وذلك بإشعال الحرب بصورة دائمة في منطقتنا الإقليمية بغية الوصول لأهداف الأنغلوسكسونية، أن هذا الحلف الديني أنغلوسكسوني تنفيذا لما ذكر يقود الآن حربا على الإسلام بدأت في أفغانستان، وبعدها العراق، وبعد ذلك على كل البلاد العربية والإسلامية.

     ومن أبرز عرابيّ العقيدة والثقافة الأنغلوسكسونية رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، هذه الشخصية التي تعتبر تجسيدا كاملا للعقلية الأنغلوسكسونية، فعلى الرغم من كونه الزعيم "العمّالي" الممثل لأفكار الاشتراكية، إلا أنه كان الأقرب إلى عقيدة حزب المحافظين في بريطانيا، بل وأقرب المقربين من الإدارة الأميركية في عهد جورج بوش ومحافظيها الجدد، والتي سايَرَها من دون أن يبدي في أية لحظة ترددا، بل كان أحيانا هو الدينامو لكل مبادرة أميركية، في الحرب على العراق أو في دعم الكيان الصهيوني والتآمر على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الفائزة في انتخابات قانونية وفق الديمقراطية التي صدع بها الغرب رؤوسنا، والتضييق على فلسطينيي غزة وغيرها؛ ولو أن الواقع السياسي لم يكن كما هو عليه، لكان بلير سعيدا وهو في لباس حاكم ولاية أمريكية، أو قائد أسطول أميركي في مكان ما من بحار العالم.

     بلير ظل رئيسا للوزراء في انجلترا من سنة 1997 حتى سنة 2007، أي عشر سنوات كاملة كانت حاسمة في مسيرة الصراع بين الإسلام وحلف الأنغلوسكسون، حيث بدأ قصف أفغانستان سنة 1998، ثم الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000، ثم أحداث سبتمبر 2001، ثم احتلال أفغانستان سنة 2001، ثم الحرب على العراق سنة 2003، ثم الحرب على لبنان سنة 2006، ثم فصل غزة عن الضفة سنة 2007، أحداث جسام شكلت وقود العدوان العالمي على العالم الإسلامي.

     بلير كانت قراراته كلها تنبع من قناعاته الدينية الراسخة تجاه العالم الإسلامي، ففي برنامج شهير بعنوان "سنوات بلير" على قناة البي البي سي تمت إذاعته في شهر يوليو 2008، عبر فيه بلير عن أثر توجهاته الدينية في الحرب على العراق فقال نصا: "إن إيماني الديني لعب دورا كبيرا في عملي السياسي، لكنني فضلت عدم الكشف عن هذا الأمر حينها لتجنب أي جدل"؛ وأكد بيتر مندلسون، حليفه السياسي والمفوض الأوروبي الحالي للتجارة، إيمان بلير، فقال: "إن الإنجيل لا يفارق بلير، فهو يأخذه معه أينما ذهب، وقبل أن ينام يقرأ مقتطفات منه".

     وكما قلنا فإن بلير يمثل تجسيدا كاملا للعقلية الأنغلوسكسونية في جانب هوسه الديني، فقد كان شرها نحو ثروات المسلمين، وعلى الرغم من تصريحاته الدورية أنه وسائر قادة التحالف الأنغلوسكسوني المحتل للعراق لا يطمعون في نفط العراق، وأكاذيبه المفضوحة بأن النفط هو ثروة الشعب العراقي، إلا أن الأيام قد أثبتت شره بلير نحو ثروة العراقيين، إذ اتضح أنه عمل وسيطا للعديد من شركات النفط العالمية التي دخلت السوق العراقي بعد الاحتلال، وبعد استقالته الشهيرة في 2007، عمل مستشاراً للشركات النفطية براتب سنوي يقدر بمليون جنيه استرليني، فاستغل نفوذه في تسهيل الفوز بتطوير حقل الزبير النفطي في محافظة البصرة جنوب العراق لصالح شركات نفطية معينة تروم استثمار الحقول النفطية في العراق، وصحيفة "صانداي تايمز" البريطانية نشرت تقريرا ذكرت فيه أن صندوق "مبادلة" الاستثماري الذي يعمل توني بلير فيه كمستشار براتب ضخم، هذا الصندوق دخل في ائتلاف "كونسورتيوم" مع شركات نفط غربية، ويضم ائتلاف "كونسورتيوم" "سينوبك" الصينية و"أوكسيدنتال" الأمريكية و"كوغاز" الكورية الجنوبية، وقد فازت هذه المجموعة بقيادة شركة "ايني" الإيطالية بعقد تطوير حقل الزبير مقابل رفع الإنتاج من 195 ألف برميل يوميا إلى 1.13 مليون برميل بحلول العام 2016، مما جعل ثروة بلير تقفز لرقم 14 مليون جنيه استرليني من عمولات بيع البترول، أي أنه كان مجرد لص من لصوص البحر، وسمسار رخيص لا هدف له سوى المال بغض النظر عن طرقه.

     بلير الأنغلوسكسوني يقوم اليوم بدور أشبه ما يكون بالدور الذي لعبه الناسِك بطرس قديما عندما طاف أرجاء أوروبا محرضا الأوروبيين الفقراء على "استنقاذ قبر المسيح من يد الكفار"، كما لم يفُتْه أن يغريهم بأنهار العسل واللبن في بلاد الشرق الثرية، فأسال لعاب قرابة المليون فقير وجائع، والذين شكلوا الحملة الصليبية الأولى التي أطلق عليها حملة "الرعاع"؛ بلير يعيد نفس الدور الذي لعبه في مطلع الألفية الثانية عندما طاف دول العالم محرضا على حرب العراق ونزع أسلحة دماره الشامل التي لم يعثر عليها أحد! فهو اليوم يدعو العالم المتحضر للتوحد تحت راية واحدة على اختلاف ما بينهم من أجل مواجهة الخطر الحقيقي وهو العالم الإسلامي.

     وفي خطاب بعنوان «أسباب أهمية الشرق الأوسط» ألقاه في مقر «بلومبرغ» وسط لندن، أقر بلير أن الرأي العام في المملكة المتحدة وغيرها من دول غربية رافض للتدخل المباشر أو العسكري في الشرق الأوسط بعد حربي العراق وأفغانستان، ولكنه شدد على ضرورة عدم ابتعاد الدول الغربية عما يدور في المنطقة، قائلا إن «ما يحدث هناك حاليا يشكل أكبر تهديد للأمن العالمي في بداية القرن الـ21». وأضاف أن «الإقليم، بما فيه الدول خارج الحدود التقليدية للمنطقة -باكستان وأفغانستان شرقا وشمال أفريقيا غربا- تشهد اضطرابات من دون نهاية منظورة، وهناك عدد من النهايات المحتملة من المتفائلة جزئيا إلى الكارثية». وتابع أن «جذور الأزمة» في الشرق الأوسط «نظرة متطرفة ومسيسة للإسلام، إيديولوجية تشوه وتحور رسالة الإسلام الحقيقية، والتهديد من هذا التفكير الراديكالي للإسلام لا يتراجع، بل ينمو وينتشر حول العالم، وهو يزعزع المجتمعات بل الدول.

     أي أن بلير متخوف من تراجع الحرب العالمية ضد العالم الإسلامي، ويحذر من تداعيات هذا التراجع على مسيرة السلام والأمن الدولي في تحريض سافر. وقد حدد بلير أسباب هذا التحريض في أسباب أربعة تكشف بمنتهى الوضوح العقلية والعقيدة الأنغلوسكسونية التي تحرك بلير وأمثاله على الساحة الدولية، الأول وجود الجزء الأكبر من مصادر الطاقة التي يحتاج إليها العالم. والثاني وهو جغرافية المنطقة التي تقع على شرفة أوروبا وحدود الاتحاد الأوروبي على ساحل المشرق، وعدم الاستقرار هناك يؤثر على أوروبا. والثالث هو الكيان الصهيوني وتحالفه مع الولايات المتحدة وشراكتها مع الدول الرائدة في أوروبا. والسبب الرابع الذي حدده بلير هو الرسالة الجوهرية لخطابه، وهو عداوة العالم الإسلامي.

     وأخيرا تجدر الإشارة إلى كون بلير قد اعتنق المذهب الكاثوليكي على يد البابا المستقيل بسبب الفضائح "بندكتس السادس عشر" والمشهور بعدائه الشديد للإسلام والعالم الإسلامي، وذلك فور استقالته في 2007، ليمثل بلير بذلك حالة نادرة في العداء تجاه العالم الإسلامي، فهو أنغلوسكسوني العقلية، وكاثوليكي العقيدة، وليس بعد ذلك من مرتبة في العداء والكراهية للإسلام والعالم الإسلامي.

إرسال تعليق Blogger

 
Top